فيزياء الذنوب
معادلات وردود أفعال في طريق التقوى
سهير علي أومري
“لعلكم تتقون” العلة التي لأجلها فُرِضَ الصيام علينا وعلى الذين من قبلنا… لعلنا نتقي الله في أقوالنا وأفعالنا وجميع أحوالنا… سلَّم التقوى الذي كلما أتى رمضان يكون على أمل أن يرانا قد صعدنا درجاته فأصبحنا في مرتبة عليا منه، ولكن يتفاجأ أنه يؤدي بالنسبة لنا كل عام الوظيفة ذاتها، وهي أن عليه أن يمسك بأيدينا لنقف أمام هذا السلم، ونحاول ارتقاءه، ثم يمضي ليعود في العام القادم ليجدنا عند النقطة التي بدأها معنا العام الفائت….
فلماذا يا ترى كان هذا واقعنا؟ فكّرت ملياً في الأمر محاولة أن أصل إلى أهم العوائق التي تحول بيننا وبين طريق التقوى، وأبحرت في رحلة إلى داخلي متذكرة نماذج عديدة لأناس استطعت من خلالهم ومن خلال نفسي قبلهم أن أستنتج أمراً في غاية الأهمية وهو:
أنه لن يكون المضي في درب التقوى ممكناً ما لم ندرك أمرين هما:
1-معادلة الذنوب التي يخضع لها كلٌّ منّا عند ارتكابه هذه الذنوب؟
2-كيف تكون ردود أفعالنا عادة تجاه ما نرتكبه من ذنوب؟
فإننا إن تمكنا من تحديد هذين الأمرين يصبح بإمكاننا أن نبصر ماذا علينا أن نفعل لنتقي الله…. بمعنى آخر يصبح طريق التقوى واضح المعالم والأبعاد لأننا بذلك ندرك الموقع والمكان الذي نقف فيه، ونستطيع أن نحدد الوجهة والطريق الذي علينا أن نسير فيه لنصل إلى مرضاة الله تعالى….
وإليكم هذه الدراسة المتواضعة التي أقدّمها حول هذا الموضوع والتي أسأل الله تعالى أن تكون معيناً لنا في درب التقوى والطاعة…
· معادلة الذنوب:
لنتفق قبل كل شيء أنه ما من ذنب يرتكبه العبد إلا وفق هذه المعادلة النفسية فهي أساس كل ذنب أو حرام في حياتنا وهذه المعادلة هي:
الشَّهْوَة+ فُرْصَة (غَيْر شَرْعِيَّة) + ضَعْف = ذَنْب
وأقصد بالشهوة هي نقطة الضعف، وربما كانت ليست نقطة بل نقاط ضعف موجودة لدى كل منا…. تتراوح أنواعها وشداتها بين شخص وآخر، وهي الشهوات على اختلاف أنواعها “المال، السلطة، الجنس……إلخ” فهذه الشهوات عندما تتاح لنا فرص (غير شرعية) لإشباعها تقف النفس أمام مفترق طريقين: إما أن تقوى وتثبت على شرع الله، أو تضعف فتزلّ وبالتالي تقارف الإثم وترتكب الذنب….
· متى لا نقع في الإثم؟
الجواب ببساطة سيكون عندما نقوى على أنفسنا ونجاهدها، ولكن يجدر بي أن أشير إلى أمر هام أيضاً، وهو أن قوة الشهوات في نفوسنا والفرص المتاحة لنا تساهم في ارتكابنا الذنوب، أو ابتعادنا عنها، فربما كانت الشهوة موجودة ولكنها غير متأججة، ولم يصادف صاحبها فرصة لإشباعها (بطرق غير مشروعة)، وبالتالي فإنه لا يرتكب ذنباً، ولا يقع في الإثم…
مثال:
شهوة (حب المال) (متوسطة) + فرصة الرشوة (غير متاحة) = لا ذنب
وربما صادف أحدنا فرصة كبيرة لإشباع إحدى شهوات النفس، ولكن هذه الشهوة بالذات لا مساحة لها في نفسه أصلاً أي غير موجودة، وبالتالي فإنه أيضاً لا يقترف الذنب ولا يقع في الإثم…
مثال:
شهوة (حب المال) (غير موجودة) + فرصة الرشوة (متاحة) = لا ذنب
أنواع الفرص:
أما في حال كون الشهوة متوسطة أو متأججة في النفس وهي ما نسميه هنا (نقطة الضعف) فإن صاحبها ربما يبقى في مأمن من اقتراف الذنب إلا إذا أتيحت له الفرصة، والفرصة نوعان:
- إما أن تتاح له فلا يكون له علاقة في إيجادها (أي تأتيه امتحاناً من الله) فتضعف نفسه ويستسلم لها وهنا تكون المعادلة الأولى أي:
شهوة (حب المال) (متأججة أو متوسطة) + فرصة الرشوة (متاحة لا يد له في إيجادها) + ضعف (واستسلام) = ذنب
- أو يركض هو لاهثاً لإيجاد الفرصة، فتراه يبحث في أنواع الحرام هنا وهناك ليطلق العنان لشهوته، وهنا يكون الذنب -والله أعلم- أكبر.
مثال:
شهوة (حب المال) (متأججة أو متوسطة) + فرصة الرشوة (يوجدها بنفسه) + ضعف (واستسلام) = ذنب.
معادلة التقوى:
أما إن كانت الشهوة متأججة في نفس صاحبها وأتيحت له فرصة فتغلب على نفسه وقاوم شهوته وترك الذنب فهذا يكون عين التقوى أي:
شهوة (حب المال) (متأججة أو متوسطة) + فرصة الرشوة (متاحة لا يد له في إيجادها) + ضعف (يرافقه جهاد ثم انتصار) = لا ذنب (عين التقوى)
وإنني أوردت هذه المعادلات سعياً مني لما يلي:
1- أن يحدد كل منا متى يتهدده الخطر وذلك عندما يبصر بارقة فرصة غير شرعية تتراءى له ويعرف نقطة الضعف التي لديه تجاهها فيجند نفسه لهذا الجهاد…
2- أن يدرك أنه عندما لا يرتكب الكثير من المعاصي أنه ليس محسناً على الدوام بل لأن الفرص ربما غير متاحة له، أو أن الشهوة لديه ليست قوية، أو أن الشهوة لا مساحة لها في نفسه أصلاً…
3- أن يدرك الفارق بين الامتحانات التي يضعه الله تعالى أمامها عندما تتاح له فرص الحرام، وبين أن يسعى هو بنفسه وراء هذه الفرص ويبحث عنها…
والآن آتي إلى ردود أفعالنا تجاه الذنوب التي نقترفها
· كيف تكون ردود أفعالنا عادة تجاه ما نرتكبه من ذنوب؟
رأيت هذه الردود تنحصر في أربعة أحوال يتقلب بينها صاحب الذنب – على فرض أننا جميعاً متفقون بالفطرة على ما هو حلال وما هو حرام في سلوكنا وأفعالنا – وهذه الردود واحد منها فقط هو السلوك المحمود الذي أمرنا الله تعالى به عندما نخطئ أو نذنب وهي:
1- الحزن والقنوط:
يحزن المذنب ويتألم ويؤنبه ضميره حتى يشعر أنه مهما فعل لن يرجع كما كان، فيسيطر عليه اليأس من نفسه ومن إصلاحها، ويقتنع أنه شخص غير جدير برحمة الله، وأن الله لا شك سيعاقبه بل سيدخله النار…. عندها يستسلم لضعفه ويقنط من رحمة الله ويمضي في ارتكاب الخطأ ذاته وربما أخطاء أخرى غيره.
2- تخدير الضمير:
يقرُّ بأنه مخطئ، ولكن يخدر ضميره بأداء الفرائض والعبادات على اعتبار أن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، وأن الله غفور رحيم، وأن الحج يكفر ذنوب الماضي كله، وأن السير إلى المسجد يكفر بكل خطوة يخطوها ذنباً ويرتفع بها درجة… وأن عينه لن تمسها النار إن دمعت من خشية الله، فتراه لا يفتأ كل يوم يجلس يذكر الله ويعتصر سوائل جسمه لتدمع عينه لا بل عيناه..، ويصبح في هذه الحالة مثالاً لانفصال العبادة عن السلوك، يناقش في الصغائر والكبائر، وينتقي من الذنوب ما صُنفِت أو ما صنفها هو أنها من اللمم _على اتساع مفهوم اللمم _ فيرتكبها عن قصد مستسلماً لضعفه أمامها، وربما قادته هذه الصغائر إلى الكبائر، ولكن لا مشكلة طالما أنه يمتلك ممحاة للذنوب تكمن في العبادات المتناوبة التي يدأب عليها، مع ثقته برحمة الله ومغفرته لأن الله غفور رحيم….
3- سياسة التبرير:
يرتكب الخطأ نتيجة ضعفه فيجد لهذا الخطأ حلاوة ولذة فتتعلق نفسه به ويشعر أنه غير قادر على تركه، وأنه يريد الاستمرار في ارتكابه مدى الحياة، ولكن هذا السلوك خطأ وذنب عظيم فما العمل؟
عندها يبدأ باتباع سياسة خطيرة ألا وهي سياسة التبرير…. ولهذه السياسة ثلاثة أنواع:
- تبرير شخصي: فيبرر خطأه ويختلق الحجج والأعذار… فما فعله كان بدافع ضعفه أو بدافع حاجته أو بدافع ظروف حياته القاسية التي تفرد بها والتي لاشك سيقدرها الله له… وبذلك يغدو الذنب هو الخيار الأوحد الذي هو مضطر له ولا يستطيع العيش دونه، وهو شرط لاستمرار حياته.
- تبرير عام: فيبرر خطأه بأنه أصبح شائعاً وكل الناس يفعلونه، فكيف سيكون مختلفاً عنهم؟ إنه يخجل من مخالفتهم وخاصة إذا كانت له مصالح معهم….
- تبرير فقهي: وهذه أشد الحالات وأخطرها إذ يبدأ هذا الشخص بالبحث والتنقيب ليثبت أن ما فعله من خطأ ويود أن يستمر في فعله ليس خطأ في الأصل، وليس حراماً بحال من الأحوال… فيسأل هنا وهناك ويتعلق بكلام أدعياء التجديد الذين انتشروا في الآونة الأخيرة وتفوقوا في “صناعة الفتوى” فأخذوا يلوون عنق النص الديني على اختلاف نوعه – قرآن، حديث- ليكون ملائماً لرغباتهم ومحللاً لشهواتهم لتصبح أغلب _إن لم تكن كل_ المحرمات حلالاً من المباحات لا بل من المستحبات، ويبدأ بالحديث عن تطور الأحكام بتطور الأزمان، وأن وقتنا يجب أن يكون له فقه جديد (ولو كان هذا الفقه سيقلب – إن لم يكن سيلغي – ثوابت الدين وأصوله فلا مشكلة المهم أن ما يفعله صحيح مباح) وهنا ينتقل هذا الشخص إلى مرحلة أصعب، وهي أنه يشعر بالرغبة في جعل كل من حوله يرتكبون الذنب الذي يفعله هو ليشعر براحة الضمير أكثر فأكثر، فلا يعدم لإقناعهم وسيلة، ويصبر عليهم ويأخذ بأيديهم رويداً رويداً ليصبحوا نسخة عنه يؤيدون أفكاره ويوافقونه على فعله بل ويفعلون مثله….
4- التوبة والإنابة:
إنها رد الفعل المحمود الذي يستوجب صاحبه رحمة الله ومغفرته ويتمثل في أن يرتكب المذنب الخطأ بدافع ضعفه وحاجته، فلا يبحث عن فتوى تحلّل له ما فعل، ولا يمضي مستمراً في خطئه متكئاً على عباداته وطاعاته، ولا يبرر خطأه على نحو شخصي، ولا على نحو عام، وفي الوقت نفسه لا يستغرق في لوم نفسه فيقنط من رحمة ربه، بل يحاسب نفسه على ما فعل يؤنبه ضميره فيندم ويقرر عدم العودة…. يقرّ بضعفه بل يذهب إلى الله بضعفه… يلوذ بكنفه ويأوي إلى رحمته وكرمه…. يقف بين يديه مستشعراً مدى تقصيره وحاجته إليه… ثم يبدأ بهمة وإرادة مقبلاً على الله مستعيناً به طالباً منه العون على ضعفه والمغفرة لذنبه…
وهذا النوع الأخير هو ما أمرنا الله تعالى أن نكونه، فالله تعالى لم يخلقنا ملائكة بلا شهوات نفس ولا رغبات بل “خلق الإنسان ضعيفاً” وعلم أن فينا ضعفاً وجعل ذاك الصراع الذي نعيشه بين شهوات أنفسنا ورغباتنا وبين الحق الذي يريدنا أن نتمثله في حياتنا جعله محض الإيمان وجوهر الإيمان، وذلك عندما نجاهد أنفسنا ونحجبها عن المعاصي والآثام، وحتى إذا غلبتنا أهواء نفوسنا فزللنا نبادر فنلوذ بكنفه، ونحتمي بحماه، ونطلب عونه ورضاه…. لأننا نعلم أن لنا رباً يغفر الذنب، ويفرح بتوبة العبد، ويمدّ يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويمدّ يده في النهار ليتوب مسيء الليل…. وفي الوقت نفسه لا نتكئ على مغفرة الله ورحمته فنخوض غمار الذنوب والمعاصي ونتقلب فيها عن سابق إصرار وتصميم….
إن هذه الأحوال الأربعة تمثل ردود أفعالنا تجاه ما نرتكبه من ذنوب وإننا لن نبدأ مسيرة التقوى إلا إذا وعيناها وعرفنا موقعنا منها.
خاتمة:
فيزياء الذنوب: معادلات الذنوب وردود أفعالنا تجاهها…. إنها بوصلتنا نحو إدراك الخلل ذلك لأن معرفة المرض إنما هو نصف العلاج…. وتقييمنا لأنفسنا ومواقفنا يجعلنا نبصر كيف سنتقي الله تعالى، وكيف سنسمح لرمضان هذا العام أن يحقق الهدف الذي زارنا من أجله… “لعلكم تتقون”
مِن الفيسبوك : جدار بيان طنطاوي